أشكال الفرجة الشعبية وعناصرها في المسرح العربي د.أبو الحسن سلاّم
صفحة 1 من اصل 1
أشكال الفرجة الشعبية وعناصرها في المسرح العربي د.أبو الحسن سلاّم
* تمهيد
* مفهوم الفرجة
* أشكال الفرجة ومصادرها
* عناصر الفرجة
* دور الشخصيات والأحداث في استدعاء عناصر الفرجة
* المخرج ودوره في إنماء أشكال الفرجة وعناصرها
* الممثل وجهوده في تجسيد عناصر الفرجة
* دور المكان في اختيار أشكال الفرجة وعناصرها
* دور الجمهور في انتشار أشكال الفرجة الشعبية
* أهم النتائج
* ثبت المصادر والمراجع
ــــ
تمهيد: حفل المسرح العربي بالعديد من عناصر الفرجة الشعبية ، استلهاما من الطبيعة الاحتفالية في ثقافتنا ، تلك الطبيعة التي تتميز بالحميمة والدفء القبلي، وروح المبادرة ومشاركة الآخرين في أفراحهم وأتراحهم . وقد فجرت تلك المشاركات الحميمة مواهب الشيوخ والشباب فتفتقت عن صور وجماليات قولية موقعة أو مغناة ، وصور حركية فيها من المهارة والبلاغة في التعبير ، والمعني البليغ الذي يتمحور حول أمثولة أو فزورة أو حزورة أو أحجية. كما تفجرت طاقة الحكي الشعبي الملتبس بخرافة أو أسطورة يشخصها اللاعب بمهارته بالغـناء أو بالإلقاء الموقع بمصاحبة آلة شعبية كالربابة أو الناي أو بالنقر على طبلة أو آلـة إيقاعية أو بتحريك العروسة أو بالتخفي وراء قناع حيوان أو كائن غريب أوطائر، مستعينا بملحقات تعينه على تشخيص دور أو إعادة إنتاج صـورة مـن واقعه المعيش أو الافتراضي المتخيل ، منوعا بين أساليب الحكي بفن الموال وفن الرواية وفن التشخيص وفن التقليد الكاريكاتيري . وقد انتفع كتاب المسرح العربي بالكثير من تلك الفنون التشخيصية الشعبية مما حفظه تاريخ الثقافة العربية من آدابها وفنونها. ولعل من أبرز الكتابات المسرحية التي حفلت بعناصر الفرجة الشعبية ، نجيب سرور في مصر وعبد الكريم برشيد في المغرب والفريد فرج في عدد من نصوصه ، وعز الدين المدني في تونس وعبد العزيز حمودة ويسري الجندي وأبو العلا السلاموني في مصر ونادر عمران وغنام غنام في الأردن والعثيم في السعودية وقلعجي في سوريا. بالإجمال لم يسلم كاتب مسرحي عربي من داء التراث ، أبتلي كتابنا ومخرجونا وسينوغرافيونا المسرحيون بداء التراث ، فلم ينج نص أو عرض من لطشة تراثية في صورة أو تعبير إن لم يكن كلاما فهو غناء أو مفردة من منظر أو جانبا من سيرة بطولية ، وهو ما يستلفت النظرة السيميولوجية الناقدة ، التي يطل بها هذا البحث التأصيلي. أولاً: مفهوم الفرجة:
الفرجة من الانفراج ، وهي عكس الكبت ، وعكس التأزم. والفرجة هي (الخلوص من الشدة. وعند المولدين اسم لما يتفرج عليه من الغرائب) وهي المشاهدة.
والانفراج شأنه شأن الأزمة ، وشأن الذروة عنصر من عناصر الحبكة في البناء الدرامي التقليدي . والانفراج هدفه الكشف والتنوير والحل بعد وصول الأزمة إلى ذروتها في أي حدث درامي تقليدي.
ولا شك في أن الانفراج شيء مريح للمتلقي ، إذ هو نهاية لصراع ما .. ترتب عليه توتر وتشويق.
والفرجة نوع من أنواع الخروج بالمتلقي من حالة إلى حالة أخرى ، كأن تكون في حالتها الطبيعية المنطقية المعتادة ؛ فتحلق مع الشخصية المسرحية في أحلامها أو تشف عندما تشف الشخصية. ويحدث هذا الخروج أو الانتقال بالمتلقي من حالة إلى حالة أسمى أو أرقى عبر عناصر التعبير الدرامي بالصورة المرئية وبالصورة السمعية أيضاً ؛ بمعنى أن الفرجة ليست مقصورة على المرئيات ولكنها تنسحب على المسموعات أيضاً.
والفرجة تكون في كل ما هو غريب. فكل غريب مثير للفرجة . لأنه يجذب المتلقي له، ويستوقفه ويشغله عما عداه ، ولو للحظة .. فغرابة شخصية (كاليجولا) تستوقفني . وهذا الاستيقاف فيه خروج عن طبيعتي .. فيه دعوة للفرجة التي تستدعي التأمل:
" هيليكون : لا تغضب يا كايوس فما سأقوله أنما أنت في حاجة إلى راحة
أولاً
كاليجولا: (جالساً بهدوء) هذا غير ممكن يا هيليكون ولن يكون ممكناً أبداً
هيليكون: ولم أذن
كاليجولا: إذا نمت قمن يعطيني القمر "
والتأمل في المسرح يكون مطلوباً عندما تكون هناك شخصية في حالة من التأمل. والفرجة هنا تكمن في غرابة مطلب (كاليجولا) تلك الغرابة التي تدعونا إلى التأمل، في ذات الوقت التي تدعو الشخصية المشاركة له في الحدث: (هيليكون).
وقد يبدو أنني بهذا التصدير أعتبر الفرجة هدفاً في ذاتها. لذلك وجب ربطها بالفكر وبالقيم الإنسانية والاجتماعية والكونية. وهذا ما يفرق بين الفرجة في المسرح أو السينما وبين الفرجة في السيرك أو في الفنون البهلوانية البحتة. إذاً فالمسرح يرتبط بالضرورة بهذين العنصرين "الفكر والفرجة" فالفكر مرتبط بالمضمون أو المحتوى. أما الفرجة فهي نتاج الشكل ويهدف الفكر إلى تحقيق الإقناع ، في حين يكون على الفرجة مهمة الإمتاع بالفكرة وبالشخصية ، وبالفعل.
ولكي تتحقق الفرجة يستخدم المبدع عناصر متشابهة في الفنون جميعها. ولكنها بالطبع لا تستخدم مجتمعة في عمل فني واحد.
ثانياً: أشكال الفرجة:
الشكل هو الإطار الخارجي للأحداث ، وهو يثري العمل الفني وينظمه ويوحد بين عناصره ويحض على التأمل في قيمه ومضامينه الفكرية والاجتماعية والكونية . وكلما كان أكثر طرافة وقدرة على تحقيق عنصر الامتاع كان أقدر على تحقيق الإقناع. ولأن المجتمعات في تغير دائم وفي تشابك وتعقيد من شأنهما خلق صعوبات جمة أمام الإقتناع ، لذلك زادت الحاجة إلى أطر طريفة ومبتكرة ولها من السحر ما يمكنها من الوفاء بواجبها الأول كوسيلة لتغليف القيم وتسريبها إلى نفوس ومشاعر وعقول المتلقين والعودة إلى التراث لاستلهام أشكال التعبير تتجدد من عصر إلى آخر رغبة في الوصول إلى وجدان المتلقي وعقله.
يقول ألفريد فرج : " إن استخدام التراث كإطار مسرحي أو انتهاج الأسلوب الشعبي القديم في ضرب الأمثولة ، ينطوي على قصد واضح لإعادة صياغة الحاضر عن طريق إعادة التراث ، وهو بذلك موقف نقدي وجدلي من التراث . كما أنه موقف نقدي وجدلي من الواقع" . وهكذا فإن الموضوع يستدعي الإطار المناسب له ، وهو ينظمه ويثريه ويوحد أجزاءه.
وعند الكلام عن أشكال الفرجة يكون الكلام عن المنظور ، لأن المنظور مرتبط بشكل الفرجة ، فالمشهد التقليدي الذي يؤدى في مسرح العلبة الإيطالية يكون المنظور فيه مواجهة بين المشهد المعروض وبين الجمهور ، مواجهة مكانية بين مرسل ومستقبل. في حين أن المشهد الشعبي الذي يؤدى في ساحة أو في (جرن حقل) يكون منظوره حلقي ، حيث يتحلق الجمهور حوله ، ما بين الوقوف والجلوس.. وهكذا يرتبط الشكل في المشهد بنمنظور الجمهور إليه. ونخلص من ذلك إلى أن أشكال الفرجة مختلفة من بيئة إلى أخرى ومن ثم يتغير مكان الفرجة من بيئة إلى أخرى . وقد يكون المنظور مختلفاً من فرد إلى آخر ، مما يسهم في تحقيق نوع من المشاركة العقلية ، لأن هذا التباين في النظر إلى المشهد يوجد تبايناً في وجهات النظر أيضاً.
وأشكال الفرجة إذاً منها ما هو حلقي حيث يحيط الجمهور بالعرض. ومنها ما هو مواجهة ثابتة ، حيث الجمهور في مواجهة العرض مكانياً ومتوحد معه شعورياً وفق أرسطو . ومن أشكال الفرجة ما كان متحركاً ، بمعنى أن يكون التجاوب غير واحد ، حيث تتغير أماكن الجمهور بما يوافق العرض ليصبح الجمهور جزءاً من العرض ، وبالعكس كما في مسارح الغرفة وهي متغيرة المنظور وفق طبيعة المضمون وتتشكل أماكن المتفرجين وفق رؤية ما. وهناك ما كان متحركاً حيث ينتقل الممثلون والجمهور على إثرهم من مكان إلى مكان آخر وفق الحدث في مكان متعدد المستويات ، كأن يدور العرض وفق أحداثه في قصر أثري أو في قلعة أو كما حدث في عرض مسرحية (الداليا) التونسية في وكالة الغوري بالقاهرة.
ولقد تعددت مسميات أشكال الفرجة في الآونة الأخيرة لتعبر عن أساس نظري وفكري ، لجماعة من المفكرين المسرحيين ، كما هو مشهور عن أصحاب الاحتفالية والسرادقية والعربة الشعبية والسامرية ومسرح القهوة ومسرح الساحة ومسرح الشارع والسهرة والحفلة إلى آخر تلك المسميات التي غالباً ما لا يصاحبها تنظير أو بيان يفصح عن غرضها ووسائلها وضروراتها ، باستثناء أصحاب الاحتفالية في المغرب العربي.
على أن للفرجة الشعبية أشكالها المحددة مثل الحكاية الشعبية ومثل الأسطورة ومثل استخدام الحيوانات الأليفة أو المستأنسة للعب. وتتخذ الحكاية الشعبية شكلاً يستدعي ما يعرف بالحكواتي الذي يتحلق الجمهر حوله حلقة غير تامة. وحيث يشخص العديد من الأدوار المتباينة والنقيضة يقول وليد إخلاصي: " والنص العربي ، بالرغم من تجاربه الحديثة استفاد من الموروث الشعبي – كالسامر والحكواتي والروائي – ولم يخرج عن تقنية النص اليوناني القديم".
ويرى الدكتور عبد الحميد يونس أن الحكاية الشعبية على لسان الراوي أو الحكواتي إلى دراما شعبية ، وكذلك خيال الظل والأراجوز : " تضم تلك الحلقات من التمثيل الطقوسي في الحفلات الدينية والاجتماعية كالاحتفال بالتحول من فصل إلى فصل أو من موسم من المواسم أو عيد من الأعياد" وكذلك: " مثل التعزية التي تمثل مقتل الحسين " .
ويرى أن لهذه الأشكال التي أطلق عليها الدراما الشعبية " وظيفة نفعية في بعض الأحيان ( كالشفاء في مشهد الزار والممارسات السحرية) ويشير عبد الحميد يونس إلى أن "بعض الدارسين" يرون في السير الشعبية ضرباً من التمثيل يقوم به ممثل فرد على نغمات آلة موسيقية هي الربابة ، ويحاكي بصوته الطفل والشيخ والمرأة والعجمي .. إلخ. كما هو الحال في إنشاء حلقات من سيرة بني هلال من مصر وغيرها من الشعوب العربية . والأدب الشعبي يضم أنواعاً من الدراما الشعبية التي تقوم بالتمثيل غير المباشر مثل بابات خيال الظل التي تعتمد على تحريك صور من الجلد تمثل شخوصاً وكائنات ومشاهد تعكس ظلالها على شاشة أمام النظارة. والدمى المجسمة لبعض النماذج البشرية في الأراجوز المعروف في تركيا وفي مصر وغيرها من بلاد الشرق. ومثل صندوق الدنيا الذي يعرض مشاهد مصورة في إطار إنشاد وغناء وموسيقى . وهناك أنواع أخرى من الدراما الشعبية تعتمد على تمثيل البهلول أو المهرج. ويضيف يونس إلى هذه الأشكال التي أعدها دراما شعبية شكلاً أخيراً وهو السامر ؛ حيث تمثل الحكايات الشعبية في حفلات الأفراح الريفية في مصر وغيرها من البيئات العربية.
على أن الدكتور علي الراعي يرى بالإضافة إلى ما سبق (المقامة العربية) حيث يتمحور الحدث حول شخصية واحدة تؤدى بالاسترجاع لمواقف تخص أشخاص آخرين ممن اشتركوا معه في حدث وصراع. وقد صاغ ألفريد فرج مسرحية (رسائل قاضي إشبيلية) منها ، و (علي جناح التبريزي) كذلك.
وعند الكلام عن أشكال الفرجة يتبادر للذهن خلط البعض أو دمجهم لمفهومي أشكال الفرجة وعناصر الفرجة .. إذ بين المفهومين فرق.
للفرجة كما أشرت أشكال مختلفة ، منها الحلقة حيث يقام السامر ويتحلق الجمهور حول العرض ، وهذا الشكل يتوسل بعناصر الفرجة المتعددة والمتنوعة ليتحقق. وحيث يتخذ كل واحد من المتحلقين منظوراً يمكنه من المشاركة. ويتحقق عنصر المشاركة أو التدخل الفوري الحاضر بين الجمهور عن طريق الشكل . يقول د.علي الراعي عن مسرح برخت: "لقد اعتبر فن برخت جديداً تماماً على البيئة العربية على الرغم من أن أسسه موجودة في كل الأشكال الشعبية للمسرح ، ومن بينها مسارح الشرق الأقصى ، وطبعاً المسرح الشعبي العربي. فالتوجه مباشرة للجمهور وكسر الإيهام والتبعيد والتمثيل على المكشوف كلها عناصر موجودة في الأشكال الشعبية العربية كالحلقة والسمر والحاكي – المقلد - وهي العناصر التي أهملها واحتقرها الكتّاب العرب منذ بداية المسرح المستورد حتى الآن " .
وقد يتبادر إى الذهن أيضاً عند الكلام عن أشكال الفرجة سؤال هو: لماذا التفريق بين ما هو فني وما هو شعبي من أشكال الفرجة؟
والتفريق بينهما هدفه توضيح المصادر في أشكال الفرجة ، فالفرجة الفنية مصدرها الفنان .. ثقافته وخياله وخبراته واختياراته المحكومة بالذات وبالموضوع – غالباً- ومصادر أشكال الفرجة الشعبية هي الموروث الشعبي والمأثور ، وتراكمات النظر الجمعي في حوادث التاريخ وأحداث البشر ، وفي الموروث العقيدي والحضاري ، وهو مجهول المؤلف –غالباً- ، حتى وإن بدأ بمؤلف معروف إلاّ أنه متغير بفعل إضافات شعبية جماعية وجمعية. يقول الدكتور أحمد مرسي: "ومما تجدر بنا ملاحظته الآن أنه في مجتمعنا أصبح مجتمع المدينة هو الذي يتبنى أساليب العبير الشعبية ليصقلها من ناحية الشكل مستفيداً من الدراسة والخبرة والإمكانات المتاحة له. أو يصب فيها إبداعه ثم يعيد تصديرها مرة أخرى إلى المجتمع الأم . ومع ذلك يظل المجتمع الشعبي محتفلاً بالشكل الأصلي لإبداعه، محتفظاً به ، غير مقتنع بما يحدثه المؤلفون في نصوصه من تعديلات" هذا عن شكل الفرجة، أما عن عناصر الفرجة فهي الأعمدة التي يتحقق بها شكل ما.
عناصر الفرجة
عناصر الفرجة كثيرة ومتنوعة ومنها ما يتحقق بأنماط بشرية ، ومنها ما يتحقق بأساليب فنية مجازية وإيهامية ، هدفها التعبير. ومنها ما كان لصنع التكوين، ومنها ما هو مؤثرات للتهيئة والتوكيد والتنويع والإثارة والتشويق. وتنضوي جميع عناصر الفرجة تحت مستويين للفرجة وهما: المستوى الفني والمستوى الشعبي للفرجة.
وليس في هذا التقسيم لون من ألوان التمييز أو التفضيل ؛ ولكن التقسيم هدفه التفريق المنهجي بين هذا وذاك.
أولاً : العناصر البشرية للفرجة:
هناك أناس تشكل أنماطاً للفرجة ؛ بمعنى أنك ترى فيما يصدر عنهم من قول أو فعل ما يثيرك ويمتعك أو يفرّج عنك ويدعوك للتأمل للحظة.
وهذه الشخصيات النمطية التي تزخر بها الحياة البشرية موجودة في الآداب وفي الفنون حيث يستلهمها الأديب والفنان في عمل أدبي أو فني. ومن أمثلتها في المجتمع العربي والإنساني: (المقلد – الملثم – المهرج – الغجري – البربري – الخواجه – التربي – الحلاّق – شيخ الخفراء – المأذون – الحاوي – المدّاح – المنادي – المسحراتي – الراوي – القرداتي – الشبح – الملاك – الشيطان – الحيوان – الحكواتي – الخاطبة – الحما – المشعوذ – الشحاذ – ماسح الأحذية – المتسول – الجلاد – الشرطي – العالمة – القوّاد – السقا – المبخراتي – المصوراتي – البلطجي – المخبر – الفرارجي – العجلاتي – الحانوتي – الأعمى- المقامر – المخمور – المخدر – الخادم – الدلالة – العفريت – المعتوه- المجنون .. إلخ).
يقول عماد عبد الرازق : " توظيف الشخصيات النمطية بمسرح المحبظين في الإسقاط الاجتماعي والسياسي" . ولكن مثل هذه الشخصيات تصبح عناصر فرجة عندما يعاد تجسيدها على المسرح. ويكون منبع الفرجة سببه مدى إجادة أو إتقان الفنان المؤدي بالتجسيد أو بالتشخيص لهذه الشخصية أو تلك.
ثانياً : العناصر الفنية للفرجة: وتنقسم إلى خمسة أقسام:
أ- عناصر فرجة أسلوبية: وهي مشتركة بين الصورة المرئية والصورة السمعية في النص وفي العرض . ومن أمثلتها:
1- الاستهلال: وهو الافتتاح أو المدخل التمهيدي ويتمثل في المسرحية بالتقديمة الدرامية. "ولكل مسرحية استهلال ، يختلف شكله من مسرحية إلى أخرى حتى مع تغير المدارس والعصور المسرحية" .
وفي مسرحية (أدهم الشرقاوي) لنبيل فاضل يأتي الاستهلال على هيئة سؤال :
" سؤال الافتتاح "
منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه
إذا كنت لما بقوله .. نص عقلي يتوه ..
بلدنا طول عمرها .. مروية بالدمعات
باهة الفلاحين .. وبضحكة البشوات
لكن في وسط الغيمات الشمس نواحه
والصحرا في كفها .. بتزهزه الواحه
وبين دروبك يا بلدي .. خطوة الادهم
بالناس وللناس يا ناس .. صار الجدع أدهم
شاربه شفايفه العرق من زحمة المخاليق
وقصته خطوه سهرانه في كل طريق
فلاح بسيط واسمعوا .. دخل التاريخ وحكوه "
وهذا الموال الشعبي الاستهلالي هو شكل من أشكال الفرجة ، وهو يحوي عناصر عديدة من الفرجة ومصدر هذا العنصر هو السؤال الاستنكاري الذي لا يجد إجابة غير أسلوب الشرط. "إذا كنت لما بقوله نص عقلي يتوه "ذلك" الأسلوب الذي يهدف هنا إلى تعميق السؤال نفسه وتوكيد عدم وجود إجابة عنه ، توكيد انتفاء الإجابة. هذا ناهيك عن أسلوب الاستهلال بصحة العام المطروح بما هو خاص ، وفي الصحيح المعتاد لا يستدل على ضعف العام بضعف الخاص ، إنما يكون الضعف في الخاص نتيجة مقبولة لضعف في العام فالجزء يتأثر بالكل . وهذه الوقفة التي استدعاها الاستهلال تؤكد أنه استهلال حسن ، لذلك حفظه الوجدان الشعبي لأنه أمتعها وفرض على مجتمع المدينة أن يتأمله ، أو يستقبله استقبالاً موسيقياً، ثم يستقبله استقبالاً تأملياً.
ثم إنه يعود بعد ذلك إلى العلة : "بلدنا طول عمرها مروية بالمدمعات" بآهات الفلاحين وبضحكة البشوات" وهو يستخدم التعتيم ثم الجزئي من العام عن طريق التخصيص : "آهة الفلاحين وبضحكة البشوات" ومع التخصيص يجمع بين خاص نقيض لخاص آخر في وحدة. والتناقض في وحدة لاشك عنصر فني من عناصر الأشكال الأدبية والفنية جميعاً وهو تعبير درامي جامع لصورة صراعية. ثم إنه يستدرك بعد ذلك : "ولكن في وسط الغيمات الشمس نواحه" ليعطي المتلقي الأمل . فعلى الرغم من قتامة الصورة الصراعية الأولى التي ه نتيجة عدم وجود ناس تعي حقيقة الصراع بين الفقراء والبشوات ، فإن الأمل بالفرج قائم. وعنصر الفرجة في الاستعارة التصريحية التي يستخدمها ؛ إذ يعطي الشمس القدرة على النواح ، يعطيها صفة بشرية ، ليؤكد القدرة عى التغيير. ثم هو يفلسف الأمر ممهداً للخاص بصورة ثانية من صور الاستعارة إذ يستشهد بقدرة الشمس على إنماء الواحة : "والصحرا في كفها بتزهزه الواحه".
ثم إنه يصف طبيعة الفرد الثائر ، يشرح بإيجاز مدى وعيه "بالناس وللناس" وينهي باستنتاج لطبيعة الصراع من الصورة إذ يعبر بالصورة الدامية . وهو بذلك يكثف للمتلقي حكاية المسرحية. وهو يمهد المتلقي لكي يستقبلها. وتلك مهمة الاستهلال ، وهذا شكله أن يكون ممتعاً وداعياً لتأمل العمل الذي سوف يعرض على المتلقي.
2-التوكيد: وهو في النص وفي الأداء أيضاً ، بل في كل الفنون الزمانية والمكانية .
3-التكرار: وهدفه توكيدي وتثبيتي ، وله أشكال متعددة.
4-التنويع: ويهدف لإبطال مفعول الملل. وهو أمر مشترك في كل الفنون
5-التجسيد: وهو أسلوب معايشة الفعل حركة ودوافع وقولاً ؛ بحيث يبدو الجسيد نابعاً من الشخصية المسرحية المجسدة بواسطة الممثل ووساطة المؤلف في البداية.
6-التشخيص: وهو أسلوب اقتباس ظاهري في أداء شخص أو فعل أو حركة جزئية تختلط فيه دوافع المشخص بدوافع ما يشخصه.
7-الإيهام: ويتم عن طريق عناصر أخرى منها التورية والاستعارة أو المجاز والاقتباس والكناية والتشبيه.
وتأخذ الكتابة في المسرح صفة مادية مثل (شمعة مضاءة فتعطي دلالة ، أو تنطفئ فتعطي دلالة هي عكس دلالتها وهي مضيئة أو سجادة حمراء يدخل عليها أجاممنون فتمهد لمقتله على يد "كليتمنسترا".
والإيهام يتحقق بصفة أكثر تأكيداً واتساعاً بمؤثرات مسرحية.
8-التشويق : ولا يخلو عمل أدبي أو فني ممتع من التشويق.
9-التكثيف: وهو كما نعلم عنصر مشترك بين المسرح والشعر.
ب-عناصر فرجة حركية :
وهي لا تظهر ظهوراً واضحاًَ إلا مع الحركة. وهي متغيرة التعبير وفق الأداء. وتتمثل في العناصر التالية ، التي قد كون في الشخصية أو في الحوار أو في البناء الدرامي ذاته أو في الفكرة الدرامية أو في القصة . وهي:
1-التوقع: ومثاله في مسرحية (أدهم الشرقاوي) :
"غالية : ما تقوليش كده يا مرات عمي .. بعد الشر .. أنت بخير وأدهم إن شاء
الله حايرجع لنا بالسلامة " . (وما يمر من الزمن إلاّ القليل حتى نرى "شبح" أدهم ملثماً ، يبدو قادماً في حذر شديد)
2-التورية: وهي في العربية: أن يكون للفظ الواحد معنيان أحدهما قريب والثاني بعيد والمراد هو البعيد.
3-القلب: وهو تحول الفعل إلى ضده وفق حتمية . وهو تغير عكسي مفاجيء إلى السقوط في المأساة أو الصعود في الملهاة.
وهو عند برجسون مصدر من مصادر الضحك . ومثاله في مسرحية (كرنفال الأشباح) حيث يسأل ميت ميتاً آخر :
"المجنون: ممن توفيت ؟
الجنرال : أنا ؟ (يضحك ساخراً في صوت خافت) من مصران أعور عالجه
طبيب في الجيش علاجاً خاطئاً وشخّصه التهاباً في الحنجرة "
4-الآلية: ومثالها شخصية الأراجوز ، حيث يكون آلياً في التركيب وفي التعبير الصوتي والحركي وهي عنصر فرجة شعبية.
وقد نجد شخصية مسرحية هي (الفرفور) تتصرف وكأنها أراجوز – تصرفاً آلياً – ولها طابع آلي هو طابع الأراجوز الساخر اللوذعي والتلقائي.
وكذلك توجد الآلية في العرائس ، والأشباح والعفاريت والملائكة والحيوانات على المسرح . وهي في الحوار وفي الحركة أيضاً.
5-التلقائية: وهي على العكس من الآلية إذ ليس فيها صنعة ولا تكلّف ، ولكنها تنساب انسياب السيل من قمة الجبل. وهي في النص كما أنها في الأداء الذي لا يستغرق زمناً طويلاً. وتعرف بالعفوية أيضاً. وتظهر واضحة في اللمسات والإيماءات التي غالباً ما تكون مرتجلة.
6-الانسيابية: وتتركز في الأداء الحركي والصوتي ، بحيث تكون قادرة على ترجمة المشاعر المركبة ترجمة تعبيرية فورية ، وهي أشبه ما تكون بالفوضى المنظمة دون قانون ظاهر . وهي كالعرف الذي يطبق لا شعورياً وتتجسد صورته في حركة تعبيرية.
7-الازدواج: أن تكون للشخصية أو للتعبير أو للموقف الدرامي وظيفتان في ذات الوقت دون تشويه.
8-التقاطع: هو نوع من التعارض المقصود ، وهو لا يمنع وصول المعنى أو التعبير في أثناء مرور غيره.
9-التداخل: ويهدف إلى وضع بناء يموج بالدلالة ويفرض المشاركة على المتلقي إذ يعمل عقله.
10-التوازي: وهو عنصر خاص بالتشكيل أو بالتكوين البنائي الذي يهدف إلى صنع نوع من الموازنة أو المقارنة للتقريب بين الفروق. ولكي تتحقق لابد لها من أطراف ، قابلة للتشكيل وللتكوين إذ يكون لها الكثير من المرونة.
11-الكناية: وتأخذ في المسرح صورة مختلفة نوعاً ما عن صورتها في الأدب بعامة. حيث تترجم الكناية جملة لاحقة لها ، عملاً بمبدأ الحضور ، بمعنى أن كل ما يقدم على المسرح يترجم ترجمة شعورية ومعنوية وفورية بالصورة السمعية أو بالصورة المرئية أو بهما معاً:
"الرجل: وجاءت المدن إلينا . لكنهم لم يروني" فجملة (لكنهم لم يروني تفسر معنى الجملة السابقة لها "وجاءت المدن" فالمدن لا تجيء ولكن ذلك (كناية) عن أهل المدن ، وهذا نوع من المجاز . ولأن المسرح يحتاج إلى الترجمة الذهنية الفورية صيغت هذه الجملة كذلك لتترجم الجملة الأولى . فكأن الكناية تحتاج إلى جملة تترجم جملة أخرى في عبارة ما:
"بشر : لم نسمع عنكم ..
الرجل : الله استمع إلي ..
بشر : ماذا تقصد ؟
الرجل : دعوت عليهم فاستجاب "
فكذلك تفسر جملة " دعوت عليهم فاستجاب" جملته السابقة عليها (الله استمع إليّ) فهي كناية عن استجابة الله لدعائه. ولكنه يترجمها بجملة تالية ترجمة فورية. والكناية ماثلة أيضاً مثولاً حركياً تكوينياً ومؤثراً في (أدهم الشرقاوي) حيث مشهد الختام .
12- التقابل: ويكون بين التكوينات الحركية أو اللفظية أو اللونية ، وتكوينات الكتل. وهدفها صنع التوازن وبيان القيمة الجمالية والموضوعية أيضاً. ويكون أيضاً في الصياغة الأدبية واللحنية والأدائية بحيث تكون المواجهة لاستخلاص نتائج أو معان أو دوافع أو قيم.
13-الترادف: وقد يكون في اللغة كما يكون في الحركة وفي التشكيل اللوني والصوتي.
14-التضاد: ويكون في مواضع الترادف نفسها مع اختلاف الهدف منهما، واختلاف الأثر.
15-المباغتة: وتكون في الحركة وفي البناء الدرامي أيضاً ، وهي فجائية ومثالها في (أدهم الشرقاوي) حيث يطلب من صديقه "بدران" أن يذهب للبلدة ويحمله رسالة (غالية) ولكن "بدران" عند خروجه من المغارة يقتل برصاص الشرطة.
ج-عناصر فرجة تكوينية:
وتتم بالأشخاص المدفوعين بالعادات والتقاليد وبالبيئات المختلفة ، وبالمعتقدات وبالمنافع وبالقيم. ومثالها (الزفة – المبارزة – الأكروبات – التحطيب – المأتم – السامر – خيال الظل – الذكر والرقص والحركات الإيمائية البحتة – حفلات الختان والمأتم والصلاة ، وتكون في حالة الأداء الحركي).
د-عناصر فرجة تشكيلية:
مثل(المقابر – صندوق الدنيا – التماثيل – المقام " قبر شيخ أو قديس" – الأقنعة – التشكيل اللوني .. إلخ) في حالة من السكون.
ه-عناصر فرجة مهيئة ومؤثرة:
مثل الملابس غير التقليدية والتاريخية : الضوء – الظل – المؤثر الصوتي – الفرقة الموسيقية الحية – البخور – الشموع – الشرائح الفيلمية – المراجيح – الألعاب النارية – اللعب بالثعابين – وترقيص الحيوانات – المشغولات الشعبية والنسجية والفخارية – مناظر مجسمة أو مرسومة – بئر – ساقية – خيمة – شجرة – كوكب فضائي – مكياج .. إلخ) وكذلك الفقاقيع والدخان والإضاءات المتداخلة والأشكال الضوئية كالنجوم). ولا تكتسب هذه العناصر المؤثرة مسمى الفرجة ما لم تكن مخلوقة في العرض خلقاً فنياً. يقول فيكتور هوجو: "ليس المسرح بلد الواقع " ففيه أشجار من ورق مقوّى ، وقصور من نسيج وسماء من أسمال ، وقطع ماس من الزجاج وذهب من صفائح ، وجواهر مزيفة بالخضاب وخدود عليها بهرج الزينة وشمس تبرز من تحت الأرض ولكنه بلد الحقيقة: ففيه قلوب إنسانية أمام العرض ، ويقول : " لايمكن للفن أن يعطي الشيء نفسه".
والفرجة تكمن في محاولات الفنان عند تصوير الشيء دون أن يكون ما صوره هو الشيء نفسه. ويقول د.غنيمي : "أخطر شيء على الأدب القصصي والمسرحي أن بخارى واقع الأمور أو نتبع أيسر الطرق ، أو أن نحاكي ما سارت عليه الآداب في الأمم التي عنيت بلغاتها الأدبية".
مصادر الفرجة الشعبية في المسرح العربي
مصادر ميتافيزيقية في الفكرة:
ويرتبط عنصر الفرجة فيها بعناصر ليست في عالمنا بل مخبر عنها في القصص الديني ، ففي انقلاب الشجرة لتصبح امرأة كما في رسالة الغفران مثلاً التي استمدت مصادرها من قصة الإسراء والمعراج ، يوجد ارتباط بالموروث الاعتقادي والديني لعالم ما وراء الطبيعة وبأحلام البشرية في عالم أفضل ليس له نظير في حياتنا. وكذلك في انقلاب الحية إلى راقصة وانقلاب البجعة إلى غانية.
ولاشك أن في مثل هذه العناصر ألواناً شعبية من الفرجة ترسبت في الوجدان الشعبي لتجسد قدرة كائن ما على التحول عبر أشكال عديدة ومتنوعة . ولأن مثل هذا التطلع البشري إلى القدرة على التحول سمة كل إنسان لذلك نجد أن الآداب العالمية قد استفادت من الحكايات الشعبية الخرافية منها والأسطورية. فصورت تحول حيوان مثل الفرس مثلارً إلى طائر أيضاً مثل (الميتافور) ، وهو الحصان المجنح الذي يعدو على الأرض ليجتاز طبقات الفضاء .
شخصيات فعلها الموروث الميتافيزيقي:
يعكس فعل الشخصية أحياناً وكذلك ما يوحي به فعلها يعكس قيماً غيبية تشي بحلم الإنسان الدائم في التطلع إلى كشف المجهول وإدراك المستحيل.. مثل ما حكى عن (زرقاء اليامة) وقدرتها على رؤية الأعداء على مسافات شديدة البعد؛ حيث رأت حسب الحكاية الشعبية الأشجار تتحرك. وهو ما وجدنا له مثيلاً في مسرحية (ماكبث) لشكسبير حيث تتحرك غابة برنام وفق زعم الساحرات لماكبث الذي لم يصدقه تماماً كما لم تصدق عشيرة زرقاء اليمامة ما أخبرت به بخصوص تحرك الأشجار واقترابها من موطنها ، فإذا بجند الأعداد تهاجم عشيرتها تماماً كما تهاجم جند (ماكدف) قلعة ماكبث متخفية بفروع الأشجار .. ففي استلهام الغيب أو الإخبار به تكمن الفرجة الشعبية ، لأن ما يتم على المسرح أمامنا إنما يطابق ما في معتقدنا الديني وما في موروثنا الشعبي كما أنه يعبر عن تطلع الإنسان بشكل عام إلى إدراك المستحيل في غمضة عين.
ولقد حقق العلم الحديث مثل ذلك الحلم .. فهذه أشعة إكس والموجات الصوتية وفوق الصوتية تكشف المستور والغائب من كنوز في باطن الأرض ، والأقمار الصناعية تصور لنا كل ما في نطاقها ، وهو بعيد المدى لتنقله لنا شاشات (التلفاز) لذا فقول بشر الحافي لعبد الغفار مكاوي ليس كاذباً في عرف صاحب الموروث الديني حين يقول للخضر : " يامن تعرف سر الغيب المستور وتقرأ لوح المقدور". كمما أن في قول الخضر أو كشفه هذا عن بعد يعتبر عنصر فرجة شعبية .
" الخضر: على بعد أربعين فرسخاً : مريض يحتضر ، ولن تخطئه عينك أو قلبك .. أطعمه وخذه على صدرك .. القرية تنتظر وتصبر .. وسيصحو جارك في الفجر وينظر".
ثم إن في ظهور مثل شخصية الخضر على المسرح – وهي شخصية ذكرت في كتب الدين والقرآن (في سورة يونس) – ما يثير مشاعر الةفرجة ، حيث يحاول المتلقي إجراء مقارنة بين ما صوره الموروث الديني لشخصية الخضر وما صوره الفن بالتجسيد الحاضر على خشبة المسرح ، وفي هذه المقارنة التي تكون بين الصورة المسترجعة عبر الذاكرة التخيلية لما ورثناه وبين الصورة المجسدة الحاضرة يكمن عنصر الفرجة وهي شعبية لارتباط أحد أطرافها بالموروث الديني، وهو مناط عقيدة الغالبية. وربما كان (فاوست) Goethe وظهوره على خشبة المسرح وله قدرات تفوق البشر ، وما يرتبط في أضهان الغالبية الشعبية بل البشر من نتائج عقد يبرم بين الشيطان والإنسان وقيمة ما يرمز إليه ذلك متساوٍ مع "الخضر" من حيث كونها عنصر فرجة شعبية ارتبطت بموروث ديني.
أداء مصدره الموروث التعبيري:
" اعتمد الجوالون على الكلمة وكل ما يزخر به الموروث من حكايات بطولية"
" كان المؤدي الجوال يتصرف بنهايات قصصه بما يرضي جمهور مستمعيه "
ففي لجوء الحسين إلى جده ، وما يمثله ذلك اللجوء من حضور الغائب (النبي) وغياب الحاضر (الحسين) لقوة الغائب ولضعف الحاضر. تلك القوة الناتجة عن تمثلنا لقداسته الدينيسة في نفوسنا مع تصورنا لخذلان مجتمع العراق للحسين.
إذن فهناك تمثل ديني باستنجاد الذاكرة الانفعالية مع تصور اجتماعي باسترجاع الحدث التاريخي. نقيضان في وحدة أحدهما يؤثر شعورياً والثاني يؤثر عقلياً. فالخذلان مرتبط بغائب ديني. وفي تمثل الصورتين النقيضتين بالاستدعاء النفسي والذهني تصنع الفرجة عبر الشعور بالمتعة الداخلية.
دور مكان العرض في تشكيل عنصر الفرجة في المسرح:
للمكان في تحديد شكل الفرجة في المسرح دور أساسي ، فالعروض في الميادين العامة غالباً ما تكون محاطة بحلقة من الجمهير ، يتشكل كل واحد منهم في موقعه الذي يمكنه من رؤية العرض المسرحي . وتبعاً لذلك يمكن أن يجلس واحد من الجمهور أو أكثر ، ويمكن أن يقف الباقون. على أن ذلك يستلزم نصاً معيناً من حيث الزمن ، ومن حيث العناصر الشعبية للفرجة على أن تكون غالبة على العناصر الفكرية التي تستلزم التأمل الذهني.
يقول زياني شريف عياد : " عندما أعمل على عرض مسرحي أحاول أن آخذ بعين الاعتبار المسرح الذي أقدم فيه عملي . ولكن أيضاً أراعي كل احتمالات التكيف مع أي حيز جديد يطرح على أن أقصده لاحقاً " .
دور الجمهور في تشكيل عناصر الفرجة:
يقول لوركا : " إن جمهوراً لا يساعد مسرحه ويشجعه لهو جمهور ميت ، وفي طريقه إلى الموت . وكذلك فإن مسرحاً لا يضم بين دفتيه حركة المجتمع ونبض التاريخ ، ومأساة شعبه ، ويصور بصدق أرضه وروحه ، بالضحكات والدموع ، لا يستحق اسم المسرح ، بل يكون مكاناً للهو أو لذلك النوع ، المروع من النشاط الذي يسمونه (قتل الوقت) " . كما يقول : " إن المسرح يجب أن يفرض نفسه على الجمهور" ، وأضيف إليه كيف يتم ذلك إن لم يكن ممتعاً ، وكيف يكون ممتعاً دون عناصر الفرجة المختلفة.
ويقول جان جيرودو : " إذا كانت المسرحية جيدة فإنها تصبح ملكاً للجمهور ، ولا يبقى ملكاً للمؤلف غير المسرحيات الرديئة وحدها " ، ويضيف : " إن وجودنا على الأرض يصبح مباراة محزنة أو جهداً أسيفاً ما لم يكن هناك متحدث باسم التراجيديا أو الدراما بكشف مدى ما في هذا الوجود من الجمال والخيال ويرسي لها الأسس والقواعد" .
ويقول برخت : " إن المسرح يبقى هو المسرح حتى عندما يصبح مسرحاً تعليمياً، وهو ما دام مسرحاً جيداً فلابد أن يسلي" ، ويضيف : " لكن مهمة المؤلف أن يمكّن المشاهدين من الرؤية " .
دور الممثل في تجسيد شكل الفرجة وعناصرها:
يرى جيرودو أن الممثل الأول الذي يؤدي الدور على خشبة المسرح هو الحلقة الأولى في سلسلة من التجسيدات تزداد بها الشخصية استقلالاً عن المؤلف وتنسل بعيداً عنه إلى الأبد. ويصدق ذلك أيضاً على المسرحية في مجموعها. فهي بعد العرض الأول تصبح ملكاً للممثلين ، ويغدو المؤلف الذي يحوم حول الكواليس شيئاً كالشبح ، يكرهه المشتغلون بالمسرح جميعاً سواء لزم الصمت أم أكثر من الكلام . وبعد العرض المائة .. وخاصة إذا كانت المسرحية جيدة فإنها تصبح ملكاً للجمهور ولا يتبقى ملكاً للمؤلف غير المسرحيات الردئية وحدها .
ويرى أيضاً أن دور "الراوي الذي لا يزيد في المسرحية عن أن يكون صوتاً يتردد ، بلا شخصية ولا مسؤولية هو في الوقت نفسه صوت المؤرخ. وهو صوت يعيش في العصر الذي نشأ فيه لحماً ودماً. إنه المؤلف المسرحي ذاته ".
كما يقول عماد عبد الرازق : إن خيال الظل قد اكتسب أهمية وعراقة كأبرز الأشكال المسرحية القديمة :"مسرح خيال الظل اعتمد على رسائل بسيطة في التأثير الفني في المشاهدين" . وعن الممثل يقول : "المهارة في تشكيل الصوت وتطويعه مطلوبة في ممثل خيال الظل".
أشكال الفرجة الشعبية والفرجة الفنية في مسرحية
" الظاهر بيبرس "
على الرغم من نفور كثير من المثقفين للفظة فرجة وتعمدهم إبدالها بلفظة عرض، فإنني أتمسك باللفظة الأولى "فرجة" لأن العرض يشتمل على الفرجة والفكر ، على قيم فنية وقيم فكرية واجتماعية وإنسانية ، والقيم الأولى ، تؤدي إلى عرض الثانية. وأود التنويه بأنني لا أحرص على الشكل وإيثاره على المضمون ولكنني أفرق فقط لبيان قيمة عنصر الشكل في خدمة المحتوى.
ويتبقى لي بعد الفصل في هذه القضية الفنية أن أعرض لعناصر الفرجة وأشكالها الشعبية تطبيقاً على مسرحية د.عبد العزيز حمدوه لاشتمالها على كل هذه الأشكال والعناصر. فإذا كانت أشكال الفرجة تستخدم العناصر الملائمة لكل شكل منها ، فالشكل يستدعي ما يحققه تماماً ، كما يستدعي التعبير الشكل الملائم ليؤثر تأثيراً شعورياً دافعاً للتأثير الأساسي ، المراد منه كسب التأييد الجماهيري لفكرة أو لقيمة ما. وهذه العناصر منها ما هو فني ومنها ما هو شعبي. والفرجة الشعبية متجددة العناصر ، بمعنى أن العناصر قابلة للتغيير الجزئي من عصر إلى عصر آخر ، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر ، بل من غرض إلى غرض آخر خلال شكل الفرجة الواحد. فالحلقة شكل من أشكال الفرجة ، وقد تستخدم للذكر كما تستخدم للحواة ، وتستخدم للسيرك ، وللموالد وللمبارزة وللتحطيب وللرقص على فرس. وهكذا. تستخدم للتمثيل في الفرق الجوالة.
ومما تقدم نرى أن الشكل المكاني الواحد قد يستخدم لتجسيد عدة أشكال حركية تعبيرية ، ونرى كيف أن شكلاً واحداً من أشكال الفرجة كوسيلة لغرض ، قد يكون عقيدياً ، وقد يكون ترفيهياً وقد يكون نفعياً (كالزفة) وتبعاً للغرض وللمكان يتم تخير الشكل المناسب للفرجة أو للعرض حيث تتواءم مع الشكل والموضوع أو الغرض الذي استدعاها.
والإمتاع في أشكال الفرجة الشعبية أكثر من الإقناع . ولا يترتب على ذلك أن الفرجة الشعبية ليست فنية ، أي خالية من التركيب الفني المستند إلى المران والخبرة والإبداع . ذلك لأن المدينة بعلاقاتها وثقافاتها المركبة قد أصبحت الآن مدمنة لأشكال الفرجة الشعبية. وكذلك فإن كليهما يراد له أن يكون فناً.
أما من الناحية الغائية فكلاهما يراد منه تحقيق تأثير وجداني ما على المتلقي بحيث يتحقق الإمتاع والإقناع معاً بالفكر المطروح وبالقيم . غير أن الفرجة الشعبية تكون أكثر من الفكر ومن القيم في العروض التي توظف الأشكال الشعبية للفرجة وعناصرها.
ويتسم عنصر الفرجة الشعبية بالمرونة والانسيابية كما أشرت ، وهو أمر يساعد على أن يظل محفوراً في ذاكرة الناس ، وأن يتعدل باستمرار لمواجهة الأنماط الجديدة في الحياة وفي التعبير. وهذه خاصية مهمة في عنصر الفرجة الشعبية ، حيث يبدأ العمل الفني من فرد ، ولكنه يصبح ملكاً لكل الجمهور في كل زمان ومكان ، ذلك لأن الناس يضفون عليه بما يسقطونه من المأثورات التي هي خلاصة تجربة وجدانية وعقيدية طويلة ومريرة ويسقطون عليه دوافعهم الجمعية وبعضاً من واقعهم مما يصقله.
استيحاء عناصر شعبية مصدرها الأول هو التاريخ في (الظاهر بيبرس):
وتتمثل عناصر الفرجة الشعبية كلها في نص الظاهر بيبرس حيث يستعين بالعديد من أشكال الفرجة الشعبية مثل: خيال الظل والأراجوز والراوي ، التشخيص. ويستفيد المؤلف من بعض الشخصيات التاريخية مثل (ابن دانيال) صاحب خيال الظل وبابات (طيف الخيال) و(اليتيم والمتيم) وكذلك يستعين بـ(الظاهر بيبرس) ، و(ابن الحلبي) و(قطز) ويستفيد بالأحداث التاريخية ليسقطها على الواقع المعاصر ويصوغ ذلك كله وفق أسلوب الحكاية الشعبية ، ويفيد بالأسطورة وبالسرد ، وبالاسترجاع الزمني والكناية والتضمين والإيهام والازدواج والتقاطع ، والتداخل والتوازي. ويستفيد بشخصيات الموروث الشعبي من أشباح أولاد البلد والشخصيات النمطية مثل القوادة والداية. ويستخدم اللفظ الشعبي والمصطلحات البلدية.
استخدام مؤثرات شعبية للفرجة:
وهي تتمثل في عناصر تشكيلية تراثية مثل: الدكة – الربابة – القهوة – الزمارة – الطبلة – العروسة – النرجيلة وحيوان (قرد – كلب- حمار – فرس) - سيف أو حربة - زير أو قلة – شال وحلق وحرام إلخ.. وهذا كله مستخدم تقريباً في تلك المسرحية.
ألفاظ شعبية متعددة الأغراض تعطي انطباعاً محدداً وترسم معالم ابن البلد:
وإذا كانت شخصية ابن البلد تتحدد ببعض الملامح والسمات الخاصة والمميزة مثل: خفة الدم والاستدراك يهدف الاعتذار غير المباشر ورد الاعتبار والتمسك بالقيم واللوذعية واللماحية والتلطيف فإن ذلك كله ماثل في (الظاهر بيبرس):
" شمس: امشي انجر انت وهو .. هاتوا القوادة (مستدركاً) قصدي الداية أم رشيد .. لخبطوني الله يلخبطكم "
فهذا نوع من الاعتذار المباشر على ما بدر منه من صراحة وخشونة.
والاستدراك .. دليل على لماحية الشخصية الشعبية ، وفيه رد اعتبار للمرأ وللآخرين وتقرير بآدميتهم حيث ينطق كنيتها أم رشيد ولا ينطق اسمها حسب عادة المجتمع الشرقي الإسلامي.
ويبدو أسلوب "الأمر" في (امشي انجر) نوعاً من خفة الدم الشعبية والتلطيف كصفة لابن البلد تظهر في محاولة فض الاشتباك بين (الأسطى عثمان وأم رشيد) طلباً لمنفعة "حتشخص .. حتشخص يا اسطى عثمان" . "خلاص يا معلم خلاص" ، ويستخدم النص عنصر التوبيخ مع جلب التعاطف معاً " (هامساً) إيه يا وليه اللي كنت بتعمليه ده؟ انت عايزه تكملي علي؟؟ مش كفاية خيالة آخر الزمنن .. دايرين على حل شعرهم بيشخصوا زي ما هم عايزين .. "
مواجهة مباشرة وبدون ندم عن اقتناع تام : (التقنع وراء الشخصية):
"أم رشيد : (وهي تحدث نفسها تقريباً) إيه حكاية الأسطى عثمان النهاردة ؟ وإيه اللي حمقه قوي كده (صمت) علشان قلت إنه واحد من المماليك .. طب وفيها إيه دي ؟ ما كل الناس عارفة .. وهو كمان عارف
هكذا كما رأينا من تلك النماذج كيف سكنت عناصر الفرجة الشعبية فنوننا المسرحية كتابة وعرضا ، حتى أننا لا نكاد نستثني من بينهم كاتبا واحدا أو مخرجا أو مصمما أو ملحنا .
* مفهوم الفرجة
* أشكال الفرجة ومصادرها
* عناصر الفرجة
* دور الشخصيات والأحداث في استدعاء عناصر الفرجة
* المخرج ودوره في إنماء أشكال الفرجة وعناصرها
* الممثل وجهوده في تجسيد عناصر الفرجة
* دور المكان في اختيار أشكال الفرجة وعناصرها
* دور الجمهور في انتشار أشكال الفرجة الشعبية
* أهم النتائج
* ثبت المصادر والمراجع
ــــ
تمهيد: حفل المسرح العربي بالعديد من عناصر الفرجة الشعبية ، استلهاما من الطبيعة الاحتفالية في ثقافتنا ، تلك الطبيعة التي تتميز بالحميمة والدفء القبلي، وروح المبادرة ومشاركة الآخرين في أفراحهم وأتراحهم . وقد فجرت تلك المشاركات الحميمة مواهب الشيوخ والشباب فتفتقت عن صور وجماليات قولية موقعة أو مغناة ، وصور حركية فيها من المهارة والبلاغة في التعبير ، والمعني البليغ الذي يتمحور حول أمثولة أو فزورة أو حزورة أو أحجية. كما تفجرت طاقة الحكي الشعبي الملتبس بخرافة أو أسطورة يشخصها اللاعب بمهارته بالغـناء أو بالإلقاء الموقع بمصاحبة آلة شعبية كالربابة أو الناي أو بالنقر على طبلة أو آلـة إيقاعية أو بتحريك العروسة أو بالتخفي وراء قناع حيوان أو كائن غريب أوطائر، مستعينا بملحقات تعينه على تشخيص دور أو إعادة إنتاج صـورة مـن واقعه المعيش أو الافتراضي المتخيل ، منوعا بين أساليب الحكي بفن الموال وفن الرواية وفن التشخيص وفن التقليد الكاريكاتيري . وقد انتفع كتاب المسرح العربي بالكثير من تلك الفنون التشخيصية الشعبية مما حفظه تاريخ الثقافة العربية من آدابها وفنونها. ولعل من أبرز الكتابات المسرحية التي حفلت بعناصر الفرجة الشعبية ، نجيب سرور في مصر وعبد الكريم برشيد في المغرب والفريد فرج في عدد من نصوصه ، وعز الدين المدني في تونس وعبد العزيز حمودة ويسري الجندي وأبو العلا السلاموني في مصر ونادر عمران وغنام غنام في الأردن والعثيم في السعودية وقلعجي في سوريا. بالإجمال لم يسلم كاتب مسرحي عربي من داء التراث ، أبتلي كتابنا ومخرجونا وسينوغرافيونا المسرحيون بداء التراث ، فلم ينج نص أو عرض من لطشة تراثية في صورة أو تعبير إن لم يكن كلاما فهو غناء أو مفردة من منظر أو جانبا من سيرة بطولية ، وهو ما يستلفت النظرة السيميولوجية الناقدة ، التي يطل بها هذا البحث التأصيلي. أولاً: مفهوم الفرجة:
الفرجة من الانفراج ، وهي عكس الكبت ، وعكس التأزم. والفرجة هي (الخلوص من الشدة. وعند المولدين اسم لما يتفرج عليه من الغرائب) وهي المشاهدة.
والانفراج شأنه شأن الأزمة ، وشأن الذروة عنصر من عناصر الحبكة في البناء الدرامي التقليدي . والانفراج هدفه الكشف والتنوير والحل بعد وصول الأزمة إلى ذروتها في أي حدث درامي تقليدي.
ولا شك في أن الانفراج شيء مريح للمتلقي ، إذ هو نهاية لصراع ما .. ترتب عليه توتر وتشويق.
والفرجة نوع من أنواع الخروج بالمتلقي من حالة إلى حالة أخرى ، كأن تكون في حالتها الطبيعية المنطقية المعتادة ؛ فتحلق مع الشخصية المسرحية في أحلامها أو تشف عندما تشف الشخصية. ويحدث هذا الخروج أو الانتقال بالمتلقي من حالة إلى حالة أسمى أو أرقى عبر عناصر التعبير الدرامي بالصورة المرئية وبالصورة السمعية أيضاً ؛ بمعنى أن الفرجة ليست مقصورة على المرئيات ولكنها تنسحب على المسموعات أيضاً.
والفرجة تكون في كل ما هو غريب. فكل غريب مثير للفرجة . لأنه يجذب المتلقي له، ويستوقفه ويشغله عما عداه ، ولو للحظة .. فغرابة شخصية (كاليجولا) تستوقفني . وهذا الاستيقاف فيه خروج عن طبيعتي .. فيه دعوة للفرجة التي تستدعي التأمل:
" هيليكون : لا تغضب يا كايوس فما سأقوله أنما أنت في حاجة إلى راحة
أولاً
كاليجولا: (جالساً بهدوء) هذا غير ممكن يا هيليكون ولن يكون ممكناً أبداً
هيليكون: ولم أذن
كاليجولا: إذا نمت قمن يعطيني القمر "
والتأمل في المسرح يكون مطلوباً عندما تكون هناك شخصية في حالة من التأمل. والفرجة هنا تكمن في غرابة مطلب (كاليجولا) تلك الغرابة التي تدعونا إلى التأمل، في ذات الوقت التي تدعو الشخصية المشاركة له في الحدث: (هيليكون).
وقد يبدو أنني بهذا التصدير أعتبر الفرجة هدفاً في ذاتها. لذلك وجب ربطها بالفكر وبالقيم الإنسانية والاجتماعية والكونية. وهذا ما يفرق بين الفرجة في المسرح أو السينما وبين الفرجة في السيرك أو في الفنون البهلوانية البحتة. إذاً فالمسرح يرتبط بالضرورة بهذين العنصرين "الفكر والفرجة" فالفكر مرتبط بالمضمون أو المحتوى. أما الفرجة فهي نتاج الشكل ويهدف الفكر إلى تحقيق الإقناع ، في حين يكون على الفرجة مهمة الإمتاع بالفكرة وبالشخصية ، وبالفعل.
ولكي تتحقق الفرجة يستخدم المبدع عناصر متشابهة في الفنون جميعها. ولكنها بالطبع لا تستخدم مجتمعة في عمل فني واحد.
ثانياً: أشكال الفرجة:
الشكل هو الإطار الخارجي للأحداث ، وهو يثري العمل الفني وينظمه ويوحد بين عناصره ويحض على التأمل في قيمه ومضامينه الفكرية والاجتماعية والكونية . وكلما كان أكثر طرافة وقدرة على تحقيق عنصر الامتاع كان أقدر على تحقيق الإقناع. ولأن المجتمعات في تغير دائم وفي تشابك وتعقيد من شأنهما خلق صعوبات جمة أمام الإقتناع ، لذلك زادت الحاجة إلى أطر طريفة ومبتكرة ولها من السحر ما يمكنها من الوفاء بواجبها الأول كوسيلة لتغليف القيم وتسريبها إلى نفوس ومشاعر وعقول المتلقين والعودة إلى التراث لاستلهام أشكال التعبير تتجدد من عصر إلى آخر رغبة في الوصول إلى وجدان المتلقي وعقله.
يقول ألفريد فرج : " إن استخدام التراث كإطار مسرحي أو انتهاج الأسلوب الشعبي القديم في ضرب الأمثولة ، ينطوي على قصد واضح لإعادة صياغة الحاضر عن طريق إعادة التراث ، وهو بذلك موقف نقدي وجدلي من التراث . كما أنه موقف نقدي وجدلي من الواقع" . وهكذا فإن الموضوع يستدعي الإطار المناسب له ، وهو ينظمه ويثريه ويوحد أجزاءه.
وعند الكلام عن أشكال الفرجة يكون الكلام عن المنظور ، لأن المنظور مرتبط بشكل الفرجة ، فالمشهد التقليدي الذي يؤدى في مسرح العلبة الإيطالية يكون المنظور فيه مواجهة بين المشهد المعروض وبين الجمهور ، مواجهة مكانية بين مرسل ومستقبل. في حين أن المشهد الشعبي الذي يؤدى في ساحة أو في (جرن حقل) يكون منظوره حلقي ، حيث يتحلق الجمهور حوله ، ما بين الوقوف والجلوس.. وهكذا يرتبط الشكل في المشهد بنمنظور الجمهور إليه. ونخلص من ذلك إلى أن أشكال الفرجة مختلفة من بيئة إلى أخرى ومن ثم يتغير مكان الفرجة من بيئة إلى أخرى . وقد يكون المنظور مختلفاً من فرد إلى آخر ، مما يسهم في تحقيق نوع من المشاركة العقلية ، لأن هذا التباين في النظر إلى المشهد يوجد تبايناً في وجهات النظر أيضاً.
وأشكال الفرجة إذاً منها ما هو حلقي حيث يحيط الجمهور بالعرض. ومنها ما هو مواجهة ثابتة ، حيث الجمهور في مواجهة العرض مكانياً ومتوحد معه شعورياً وفق أرسطو . ومن أشكال الفرجة ما كان متحركاً ، بمعنى أن يكون التجاوب غير واحد ، حيث تتغير أماكن الجمهور بما يوافق العرض ليصبح الجمهور جزءاً من العرض ، وبالعكس كما في مسارح الغرفة وهي متغيرة المنظور وفق طبيعة المضمون وتتشكل أماكن المتفرجين وفق رؤية ما. وهناك ما كان متحركاً حيث ينتقل الممثلون والجمهور على إثرهم من مكان إلى مكان آخر وفق الحدث في مكان متعدد المستويات ، كأن يدور العرض وفق أحداثه في قصر أثري أو في قلعة أو كما حدث في عرض مسرحية (الداليا) التونسية في وكالة الغوري بالقاهرة.
ولقد تعددت مسميات أشكال الفرجة في الآونة الأخيرة لتعبر عن أساس نظري وفكري ، لجماعة من المفكرين المسرحيين ، كما هو مشهور عن أصحاب الاحتفالية والسرادقية والعربة الشعبية والسامرية ومسرح القهوة ومسرح الساحة ومسرح الشارع والسهرة والحفلة إلى آخر تلك المسميات التي غالباً ما لا يصاحبها تنظير أو بيان يفصح عن غرضها ووسائلها وضروراتها ، باستثناء أصحاب الاحتفالية في المغرب العربي.
على أن للفرجة الشعبية أشكالها المحددة مثل الحكاية الشعبية ومثل الأسطورة ومثل استخدام الحيوانات الأليفة أو المستأنسة للعب. وتتخذ الحكاية الشعبية شكلاً يستدعي ما يعرف بالحكواتي الذي يتحلق الجمهر حوله حلقة غير تامة. وحيث يشخص العديد من الأدوار المتباينة والنقيضة يقول وليد إخلاصي: " والنص العربي ، بالرغم من تجاربه الحديثة استفاد من الموروث الشعبي – كالسامر والحكواتي والروائي – ولم يخرج عن تقنية النص اليوناني القديم".
ويرى الدكتور عبد الحميد يونس أن الحكاية الشعبية على لسان الراوي أو الحكواتي إلى دراما شعبية ، وكذلك خيال الظل والأراجوز : " تضم تلك الحلقات من التمثيل الطقوسي في الحفلات الدينية والاجتماعية كالاحتفال بالتحول من فصل إلى فصل أو من موسم من المواسم أو عيد من الأعياد" وكذلك: " مثل التعزية التي تمثل مقتل الحسين " .
ويرى أن لهذه الأشكال التي أطلق عليها الدراما الشعبية " وظيفة نفعية في بعض الأحيان ( كالشفاء في مشهد الزار والممارسات السحرية) ويشير عبد الحميد يونس إلى أن "بعض الدارسين" يرون في السير الشعبية ضرباً من التمثيل يقوم به ممثل فرد على نغمات آلة موسيقية هي الربابة ، ويحاكي بصوته الطفل والشيخ والمرأة والعجمي .. إلخ. كما هو الحال في إنشاء حلقات من سيرة بني هلال من مصر وغيرها من الشعوب العربية . والأدب الشعبي يضم أنواعاً من الدراما الشعبية التي تقوم بالتمثيل غير المباشر مثل بابات خيال الظل التي تعتمد على تحريك صور من الجلد تمثل شخوصاً وكائنات ومشاهد تعكس ظلالها على شاشة أمام النظارة. والدمى المجسمة لبعض النماذج البشرية في الأراجوز المعروف في تركيا وفي مصر وغيرها من بلاد الشرق. ومثل صندوق الدنيا الذي يعرض مشاهد مصورة في إطار إنشاد وغناء وموسيقى . وهناك أنواع أخرى من الدراما الشعبية تعتمد على تمثيل البهلول أو المهرج. ويضيف يونس إلى هذه الأشكال التي أعدها دراما شعبية شكلاً أخيراً وهو السامر ؛ حيث تمثل الحكايات الشعبية في حفلات الأفراح الريفية في مصر وغيرها من البيئات العربية.
على أن الدكتور علي الراعي يرى بالإضافة إلى ما سبق (المقامة العربية) حيث يتمحور الحدث حول شخصية واحدة تؤدى بالاسترجاع لمواقف تخص أشخاص آخرين ممن اشتركوا معه في حدث وصراع. وقد صاغ ألفريد فرج مسرحية (رسائل قاضي إشبيلية) منها ، و (علي جناح التبريزي) كذلك.
وعند الكلام عن أشكال الفرجة يتبادر للذهن خلط البعض أو دمجهم لمفهومي أشكال الفرجة وعناصر الفرجة .. إذ بين المفهومين فرق.
للفرجة كما أشرت أشكال مختلفة ، منها الحلقة حيث يقام السامر ويتحلق الجمهور حول العرض ، وهذا الشكل يتوسل بعناصر الفرجة المتعددة والمتنوعة ليتحقق. وحيث يتخذ كل واحد من المتحلقين منظوراً يمكنه من المشاركة. ويتحقق عنصر المشاركة أو التدخل الفوري الحاضر بين الجمهور عن طريق الشكل . يقول د.علي الراعي عن مسرح برخت: "لقد اعتبر فن برخت جديداً تماماً على البيئة العربية على الرغم من أن أسسه موجودة في كل الأشكال الشعبية للمسرح ، ومن بينها مسارح الشرق الأقصى ، وطبعاً المسرح الشعبي العربي. فالتوجه مباشرة للجمهور وكسر الإيهام والتبعيد والتمثيل على المكشوف كلها عناصر موجودة في الأشكال الشعبية العربية كالحلقة والسمر والحاكي – المقلد - وهي العناصر التي أهملها واحتقرها الكتّاب العرب منذ بداية المسرح المستورد حتى الآن " .
وقد يتبادر إى الذهن أيضاً عند الكلام عن أشكال الفرجة سؤال هو: لماذا التفريق بين ما هو فني وما هو شعبي من أشكال الفرجة؟
والتفريق بينهما هدفه توضيح المصادر في أشكال الفرجة ، فالفرجة الفنية مصدرها الفنان .. ثقافته وخياله وخبراته واختياراته المحكومة بالذات وبالموضوع – غالباً- ومصادر أشكال الفرجة الشعبية هي الموروث الشعبي والمأثور ، وتراكمات النظر الجمعي في حوادث التاريخ وأحداث البشر ، وفي الموروث العقيدي والحضاري ، وهو مجهول المؤلف –غالباً- ، حتى وإن بدأ بمؤلف معروف إلاّ أنه متغير بفعل إضافات شعبية جماعية وجمعية. يقول الدكتور أحمد مرسي: "ومما تجدر بنا ملاحظته الآن أنه في مجتمعنا أصبح مجتمع المدينة هو الذي يتبنى أساليب العبير الشعبية ليصقلها من ناحية الشكل مستفيداً من الدراسة والخبرة والإمكانات المتاحة له. أو يصب فيها إبداعه ثم يعيد تصديرها مرة أخرى إلى المجتمع الأم . ومع ذلك يظل المجتمع الشعبي محتفلاً بالشكل الأصلي لإبداعه، محتفظاً به ، غير مقتنع بما يحدثه المؤلفون في نصوصه من تعديلات" هذا عن شكل الفرجة، أما عن عناصر الفرجة فهي الأعمدة التي يتحقق بها شكل ما.
عناصر الفرجة
عناصر الفرجة كثيرة ومتنوعة ومنها ما يتحقق بأنماط بشرية ، ومنها ما يتحقق بأساليب فنية مجازية وإيهامية ، هدفها التعبير. ومنها ما كان لصنع التكوين، ومنها ما هو مؤثرات للتهيئة والتوكيد والتنويع والإثارة والتشويق. وتنضوي جميع عناصر الفرجة تحت مستويين للفرجة وهما: المستوى الفني والمستوى الشعبي للفرجة.
وليس في هذا التقسيم لون من ألوان التمييز أو التفضيل ؛ ولكن التقسيم هدفه التفريق المنهجي بين هذا وذاك.
أولاً : العناصر البشرية للفرجة:
هناك أناس تشكل أنماطاً للفرجة ؛ بمعنى أنك ترى فيما يصدر عنهم من قول أو فعل ما يثيرك ويمتعك أو يفرّج عنك ويدعوك للتأمل للحظة.
وهذه الشخصيات النمطية التي تزخر بها الحياة البشرية موجودة في الآداب وفي الفنون حيث يستلهمها الأديب والفنان في عمل أدبي أو فني. ومن أمثلتها في المجتمع العربي والإنساني: (المقلد – الملثم – المهرج – الغجري – البربري – الخواجه – التربي – الحلاّق – شيخ الخفراء – المأذون – الحاوي – المدّاح – المنادي – المسحراتي – الراوي – القرداتي – الشبح – الملاك – الشيطان – الحيوان – الحكواتي – الخاطبة – الحما – المشعوذ – الشحاذ – ماسح الأحذية – المتسول – الجلاد – الشرطي – العالمة – القوّاد – السقا – المبخراتي – المصوراتي – البلطجي – المخبر – الفرارجي – العجلاتي – الحانوتي – الأعمى- المقامر – المخمور – المخدر – الخادم – الدلالة – العفريت – المعتوه- المجنون .. إلخ).
يقول عماد عبد الرازق : " توظيف الشخصيات النمطية بمسرح المحبظين في الإسقاط الاجتماعي والسياسي" . ولكن مثل هذه الشخصيات تصبح عناصر فرجة عندما يعاد تجسيدها على المسرح. ويكون منبع الفرجة سببه مدى إجادة أو إتقان الفنان المؤدي بالتجسيد أو بالتشخيص لهذه الشخصية أو تلك.
ثانياً : العناصر الفنية للفرجة: وتنقسم إلى خمسة أقسام:
أ- عناصر فرجة أسلوبية: وهي مشتركة بين الصورة المرئية والصورة السمعية في النص وفي العرض . ومن أمثلتها:
1- الاستهلال: وهو الافتتاح أو المدخل التمهيدي ويتمثل في المسرحية بالتقديمة الدرامية. "ولكل مسرحية استهلال ، يختلف شكله من مسرحية إلى أخرى حتى مع تغير المدارس والعصور المسرحية" .
وفي مسرحية (أدهم الشرقاوي) لنبيل فاضل يأتي الاستهلال على هيئة سؤال :
" سؤال الافتتاح "
منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه
إذا كنت لما بقوله .. نص عقلي يتوه ..
بلدنا طول عمرها .. مروية بالدمعات
باهة الفلاحين .. وبضحكة البشوات
لكن في وسط الغيمات الشمس نواحه
والصحرا في كفها .. بتزهزه الواحه
وبين دروبك يا بلدي .. خطوة الادهم
بالناس وللناس يا ناس .. صار الجدع أدهم
شاربه شفايفه العرق من زحمة المخاليق
وقصته خطوه سهرانه في كل طريق
فلاح بسيط واسمعوا .. دخل التاريخ وحكوه "
وهذا الموال الشعبي الاستهلالي هو شكل من أشكال الفرجة ، وهو يحوي عناصر عديدة من الفرجة ومصدر هذا العنصر هو السؤال الاستنكاري الذي لا يجد إجابة غير أسلوب الشرط. "إذا كنت لما بقوله نص عقلي يتوه "ذلك" الأسلوب الذي يهدف هنا إلى تعميق السؤال نفسه وتوكيد عدم وجود إجابة عنه ، توكيد انتفاء الإجابة. هذا ناهيك عن أسلوب الاستهلال بصحة العام المطروح بما هو خاص ، وفي الصحيح المعتاد لا يستدل على ضعف العام بضعف الخاص ، إنما يكون الضعف في الخاص نتيجة مقبولة لضعف في العام فالجزء يتأثر بالكل . وهذه الوقفة التي استدعاها الاستهلال تؤكد أنه استهلال حسن ، لذلك حفظه الوجدان الشعبي لأنه أمتعها وفرض على مجتمع المدينة أن يتأمله ، أو يستقبله استقبالاً موسيقياً، ثم يستقبله استقبالاً تأملياً.
ثم إنه يعود بعد ذلك إلى العلة : "بلدنا طول عمرها مروية بالمدمعات" بآهات الفلاحين وبضحكة البشوات" وهو يستخدم التعتيم ثم الجزئي من العام عن طريق التخصيص : "آهة الفلاحين وبضحكة البشوات" ومع التخصيص يجمع بين خاص نقيض لخاص آخر في وحدة. والتناقض في وحدة لاشك عنصر فني من عناصر الأشكال الأدبية والفنية جميعاً وهو تعبير درامي جامع لصورة صراعية. ثم إنه يستدرك بعد ذلك : "ولكن في وسط الغيمات الشمس نواحه" ليعطي المتلقي الأمل . فعلى الرغم من قتامة الصورة الصراعية الأولى التي ه نتيجة عدم وجود ناس تعي حقيقة الصراع بين الفقراء والبشوات ، فإن الأمل بالفرج قائم. وعنصر الفرجة في الاستعارة التصريحية التي يستخدمها ؛ إذ يعطي الشمس القدرة على النواح ، يعطيها صفة بشرية ، ليؤكد القدرة عى التغيير. ثم هو يفلسف الأمر ممهداً للخاص بصورة ثانية من صور الاستعارة إذ يستشهد بقدرة الشمس على إنماء الواحة : "والصحرا في كفها بتزهزه الواحه".
ثم إنه يصف طبيعة الفرد الثائر ، يشرح بإيجاز مدى وعيه "بالناس وللناس" وينهي باستنتاج لطبيعة الصراع من الصورة إذ يعبر بالصورة الدامية . وهو بذلك يكثف للمتلقي حكاية المسرحية. وهو يمهد المتلقي لكي يستقبلها. وتلك مهمة الاستهلال ، وهذا شكله أن يكون ممتعاً وداعياً لتأمل العمل الذي سوف يعرض على المتلقي.
2-التوكيد: وهو في النص وفي الأداء أيضاً ، بل في كل الفنون الزمانية والمكانية .
3-التكرار: وهدفه توكيدي وتثبيتي ، وله أشكال متعددة.
4-التنويع: ويهدف لإبطال مفعول الملل. وهو أمر مشترك في كل الفنون
5-التجسيد: وهو أسلوب معايشة الفعل حركة ودوافع وقولاً ؛ بحيث يبدو الجسيد نابعاً من الشخصية المسرحية المجسدة بواسطة الممثل ووساطة المؤلف في البداية.
6-التشخيص: وهو أسلوب اقتباس ظاهري في أداء شخص أو فعل أو حركة جزئية تختلط فيه دوافع المشخص بدوافع ما يشخصه.
7-الإيهام: ويتم عن طريق عناصر أخرى منها التورية والاستعارة أو المجاز والاقتباس والكناية والتشبيه.
وتأخذ الكتابة في المسرح صفة مادية مثل (شمعة مضاءة فتعطي دلالة ، أو تنطفئ فتعطي دلالة هي عكس دلالتها وهي مضيئة أو سجادة حمراء يدخل عليها أجاممنون فتمهد لمقتله على يد "كليتمنسترا".
والإيهام يتحقق بصفة أكثر تأكيداً واتساعاً بمؤثرات مسرحية.
8-التشويق : ولا يخلو عمل أدبي أو فني ممتع من التشويق.
9-التكثيف: وهو كما نعلم عنصر مشترك بين المسرح والشعر.
ب-عناصر فرجة حركية :
وهي لا تظهر ظهوراً واضحاًَ إلا مع الحركة. وهي متغيرة التعبير وفق الأداء. وتتمثل في العناصر التالية ، التي قد كون في الشخصية أو في الحوار أو في البناء الدرامي ذاته أو في الفكرة الدرامية أو في القصة . وهي:
1-التوقع: ومثاله في مسرحية (أدهم الشرقاوي) :
"غالية : ما تقوليش كده يا مرات عمي .. بعد الشر .. أنت بخير وأدهم إن شاء
الله حايرجع لنا بالسلامة " . (وما يمر من الزمن إلاّ القليل حتى نرى "شبح" أدهم ملثماً ، يبدو قادماً في حذر شديد)
2-التورية: وهي في العربية: أن يكون للفظ الواحد معنيان أحدهما قريب والثاني بعيد والمراد هو البعيد.
3-القلب: وهو تحول الفعل إلى ضده وفق حتمية . وهو تغير عكسي مفاجيء إلى السقوط في المأساة أو الصعود في الملهاة.
وهو عند برجسون مصدر من مصادر الضحك . ومثاله في مسرحية (كرنفال الأشباح) حيث يسأل ميت ميتاً آخر :
"المجنون: ممن توفيت ؟
الجنرال : أنا ؟ (يضحك ساخراً في صوت خافت) من مصران أعور عالجه
طبيب في الجيش علاجاً خاطئاً وشخّصه التهاباً في الحنجرة "
4-الآلية: ومثالها شخصية الأراجوز ، حيث يكون آلياً في التركيب وفي التعبير الصوتي والحركي وهي عنصر فرجة شعبية.
وقد نجد شخصية مسرحية هي (الفرفور) تتصرف وكأنها أراجوز – تصرفاً آلياً – ولها طابع آلي هو طابع الأراجوز الساخر اللوذعي والتلقائي.
وكذلك توجد الآلية في العرائس ، والأشباح والعفاريت والملائكة والحيوانات على المسرح . وهي في الحوار وفي الحركة أيضاً.
5-التلقائية: وهي على العكس من الآلية إذ ليس فيها صنعة ولا تكلّف ، ولكنها تنساب انسياب السيل من قمة الجبل. وهي في النص كما أنها في الأداء الذي لا يستغرق زمناً طويلاً. وتعرف بالعفوية أيضاً. وتظهر واضحة في اللمسات والإيماءات التي غالباً ما تكون مرتجلة.
6-الانسيابية: وتتركز في الأداء الحركي والصوتي ، بحيث تكون قادرة على ترجمة المشاعر المركبة ترجمة تعبيرية فورية ، وهي أشبه ما تكون بالفوضى المنظمة دون قانون ظاهر . وهي كالعرف الذي يطبق لا شعورياً وتتجسد صورته في حركة تعبيرية.
7-الازدواج: أن تكون للشخصية أو للتعبير أو للموقف الدرامي وظيفتان في ذات الوقت دون تشويه.
8-التقاطع: هو نوع من التعارض المقصود ، وهو لا يمنع وصول المعنى أو التعبير في أثناء مرور غيره.
9-التداخل: ويهدف إلى وضع بناء يموج بالدلالة ويفرض المشاركة على المتلقي إذ يعمل عقله.
10-التوازي: وهو عنصر خاص بالتشكيل أو بالتكوين البنائي الذي يهدف إلى صنع نوع من الموازنة أو المقارنة للتقريب بين الفروق. ولكي تتحقق لابد لها من أطراف ، قابلة للتشكيل وللتكوين إذ يكون لها الكثير من المرونة.
11-الكناية: وتأخذ في المسرح صورة مختلفة نوعاً ما عن صورتها في الأدب بعامة. حيث تترجم الكناية جملة لاحقة لها ، عملاً بمبدأ الحضور ، بمعنى أن كل ما يقدم على المسرح يترجم ترجمة شعورية ومعنوية وفورية بالصورة السمعية أو بالصورة المرئية أو بهما معاً:
"الرجل: وجاءت المدن إلينا . لكنهم لم يروني" فجملة (لكنهم لم يروني تفسر معنى الجملة السابقة لها "وجاءت المدن" فالمدن لا تجيء ولكن ذلك (كناية) عن أهل المدن ، وهذا نوع من المجاز . ولأن المسرح يحتاج إلى الترجمة الذهنية الفورية صيغت هذه الجملة كذلك لتترجم الجملة الأولى . فكأن الكناية تحتاج إلى جملة تترجم جملة أخرى في عبارة ما:
"بشر : لم نسمع عنكم ..
الرجل : الله استمع إلي ..
بشر : ماذا تقصد ؟
الرجل : دعوت عليهم فاستجاب "
فكذلك تفسر جملة " دعوت عليهم فاستجاب" جملته السابقة عليها (الله استمع إليّ) فهي كناية عن استجابة الله لدعائه. ولكنه يترجمها بجملة تالية ترجمة فورية. والكناية ماثلة أيضاً مثولاً حركياً تكوينياً ومؤثراً في (أدهم الشرقاوي) حيث مشهد الختام .
12- التقابل: ويكون بين التكوينات الحركية أو اللفظية أو اللونية ، وتكوينات الكتل. وهدفها صنع التوازن وبيان القيمة الجمالية والموضوعية أيضاً. ويكون أيضاً في الصياغة الأدبية واللحنية والأدائية بحيث تكون المواجهة لاستخلاص نتائج أو معان أو دوافع أو قيم.
13-الترادف: وقد يكون في اللغة كما يكون في الحركة وفي التشكيل اللوني والصوتي.
14-التضاد: ويكون في مواضع الترادف نفسها مع اختلاف الهدف منهما، واختلاف الأثر.
15-المباغتة: وتكون في الحركة وفي البناء الدرامي أيضاً ، وهي فجائية ومثالها في (أدهم الشرقاوي) حيث يطلب من صديقه "بدران" أن يذهب للبلدة ويحمله رسالة (غالية) ولكن "بدران" عند خروجه من المغارة يقتل برصاص الشرطة.
ج-عناصر فرجة تكوينية:
وتتم بالأشخاص المدفوعين بالعادات والتقاليد وبالبيئات المختلفة ، وبالمعتقدات وبالمنافع وبالقيم. ومثالها (الزفة – المبارزة – الأكروبات – التحطيب – المأتم – السامر – خيال الظل – الذكر والرقص والحركات الإيمائية البحتة – حفلات الختان والمأتم والصلاة ، وتكون في حالة الأداء الحركي).
د-عناصر فرجة تشكيلية:
مثل(المقابر – صندوق الدنيا – التماثيل – المقام " قبر شيخ أو قديس" – الأقنعة – التشكيل اللوني .. إلخ) في حالة من السكون.
ه-عناصر فرجة مهيئة ومؤثرة:
مثل الملابس غير التقليدية والتاريخية : الضوء – الظل – المؤثر الصوتي – الفرقة الموسيقية الحية – البخور – الشموع – الشرائح الفيلمية – المراجيح – الألعاب النارية – اللعب بالثعابين – وترقيص الحيوانات – المشغولات الشعبية والنسجية والفخارية – مناظر مجسمة أو مرسومة – بئر – ساقية – خيمة – شجرة – كوكب فضائي – مكياج .. إلخ) وكذلك الفقاقيع والدخان والإضاءات المتداخلة والأشكال الضوئية كالنجوم). ولا تكتسب هذه العناصر المؤثرة مسمى الفرجة ما لم تكن مخلوقة في العرض خلقاً فنياً. يقول فيكتور هوجو: "ليس المسرح بلد الواقع " ففيه أشجار من ورق مقوّى ، وقصور من نسيج وسماء من أسمال ، وقطع ماس من الزجاج وذهب من صفائح ، وجواهر مزيفة بالخضاب وخدود عليها بهرج الزينة وشمس تبرز من تحت الأرض ولكنه بلد الحقيقة: ففيه قلوب إنسانية أمام العرض ، ويقول : " لايمكن للفن أن يعطي الشيء نفسه".
والفرجة تكمن في محاولات الفنان عند تصوير الشيء دون أن يكون ما صوره هو الشيء نفسه. ويقول د.غنيمي : "أخطر شيء على الأدب القصصي والمسرحي أن بخارى واقع الأمور أو نتبع أيسر الطرق ، أو أن نحاكي ما سارت عليه الآداب في الأمم التي عنيت بلغاتها الأدبية".
مصادر الفرجة الشعبية في المسرح العربي
مصادر ميتافيزيقية في الفكرة:
ويرتبط عنصر الفرجة فيها بعناصر ليست في عالمنا بل مخبر عنها في القصص الديني ، ففي انقلاب الشجرة لتصبح امرأة كما في رسالة الغفران مثلاً التي استمدت مصادرها من قصة الإسراء والمعراج ، يوجد ارتباط بالموروث الاعتقادي والديني لعالم ما وراء الطبيعة وبأحلام البشرية في عالم أفضل ليس له نظير في حياتنا. وكذلك في انقلاب الحية إلى راقصة وانقلاب البجعة إلى غانية.
ولاشك أن في مثل هذه العناصر ألواناً شعبية من الفرجة ترسبت في الوجدان الشعبي لتجسد قدرة كائن ما على التحول عبر أشكال عديدة ومتنوعة . ولأن مثل هذا التطلع البشري إلى القدرة على التحول سمة كل إنسان لذلك نجد أن الآداب العالمية قد استفادت من الحكايات الشعبية الخرافية منها والأسطورية. فصورت تحول حيوان مثل الفرس مثلارً إلى طائر أيضاً مثل (الميتافور) ، وهو الحصان المجنح الذي يعدو على الأرض ليجتاز طبقات الفضاء .
شخصيات فعلها الموروث الميتافيزيقي:
يعكس فعل الشخصية أحياناً وكذلك ما يوحي به فعلها يعكس قيماً غيبية تشي بحلم الإنسان الدائم في التطلع إلى كشف المجهول وإدراك المستحيل.. مثل ما حكى عن (زرقاء اليامة) وقدرتها على رؤية الأعداء على مسافات شديدة البعد؛ حيث رأت حسب الحكاية الشعبية الأشجار تتحرك. وهو ما وجدنا له مثيلاً في مسرحية (ماكبث) لشكسبير حيث تتحرك غابة برنام وفق زعم الساحرات لماكبث الذي لم يصدقه تماماً كما لم تصدق عشيرة زرقاء اليمامة ما أخبرت به بخصوص تحرك الأشجار واقترابها من موطنها ، فإذا بجند الأعداد تهاجم عشيرتها تماماً كما تهاجم جند (ماكدف) قلعة ماكبث متخفية بفروع الأشجار .. ففي استلهام الغيب أو الإخبار به تكمن الفرجة الشعبية ، لأن ما يتم على المسرح أمامنا إنما يطابق ما في معتقدنا الديني وما في موروثنا الشعبي كما أنه يعبر عن تطلع الإنسان بشكل عام إلى إدراك المستحيل في غمضة عين.
ولقد حقق العلم الحديث مثل ذلك الحلم .. فهذه أشعة إكس والموجات الصوتية وفوق الصوتية تكشف المستور والغائب من كنوز في باطن الأرض ، والأقمار الصناعية تصور لنا كل ما في نطاقها ، وهو بعيد المدى لتنقله لنا شاشات (التلفاز) لذا فقول بشر الحافي لعبد الغفار مكاوي ليس كاذباً في عرف صاحب الموروث الديني حين يقول للخضر : " يامن تعرف سر الغيب المستور وتقرأ لوح المقدور". كمما أن في قول الخضر أو كشفه هذا عن بعد يعتبر عنصر فرجة شعبية .
" الخضر: على بعد أربعين فرسخاً : مريض يحتضر ، ولن تخطئه عينك أو قلبك .. أطعمه وخذه على صدرك .. القرية تنتظر وتصبر .. وسيصحو جارك في الفجر وينظر".
ثم إن في ظهور مثل شخصية الخضر على المسرح – وهي شخصية ذكرت في كتب الدين والقرآن (في سورة يونس) – ما يثير مشاعر الةفرجة ، حيث يحاول المتلقي إجراء مقارنة بين ما صوره الموروث الديني لشخصية الخضر وما صوره الفن بالتجسيد الحاضر على خشبة المسرح ، وفي هذه المقارنة التي تكون بين الصورة المسترجعة عبر الذاكرة التخيلية لما ورثناه وبين الصورة المجسدة الحاضرة يكمن عنصر الفرجة وهي شعبية لارتباط أحد أطرافها بالموروث الديني، وهو مناط عقيدة الغالبية. وربما كان (فاوست) Goethe وظهوره على خشبة المسرح وله قدرات تفوق البشر ، وما يرتبط في أضهان الغالبية الشعبية بل البشر من نتائج عقد يبرم بين الشيطان والإنسان وقيمة ما يرمز إليه ذلك متساوٍ مع "الخضر" من حيث كونها عنصر فرجة شعبية ارتبطت بموروث ديني.
أداء مصدره الموروث التعبيري:
" اعتمد الجوالون على الكلمة وكل ما يزخر به الموروث من حكايات بطولية"
" كان المؤدي الجوال يتصرف بنهايات قصصه بما يرضي جمهور مستمعيه "
ففي لجوء الحسين إلى جده ، وما يمثله ذلك اللجوء من حضور الغائب (النبي) وغياب الحاضر (الحسين) لقوة الغائب ولضعف الحاضر. تلك القوة الناتجة عن تمثلنا لقداسته الدينيسة في نفوسنا مع تصورنا لخذلان مجتمع العراق للحسين.
إذن فهناك تمثل ديني باستنجاد الذاكرة الانفعالية مع تصور اجتماعي باسترجاع الحدث التاريخي. نقيضان في وحدة أحدهما يؤثر شعورياً والثاني يؤثر عقلياً. فالخذلان مرتبط بغائب ديني. وفي تمثل الصورتين النقيضتين بالاستدعاء النفسي والذهني تصنع الفرجة عبر الشعور بالمتعة الداخلية.
دور مكان العرض في تشكيل عنصر الفرجة في المسرح:
للمكان في تحديد شكل الفرجة في المسرح دور أساسي ، فالعروض في الميادين العامة غالباً ما تكون محاطة بحلقة من الجمهير ، يتشكل كل واحد منهم في موقعه الذي يمكنه من رؤية العرض المسرحي . وتبعاً لذلك يمكن أن يجلس واحد من الجمهور أو أكثر ، ويمكن أن يقف الباقون. على أن ذلك يستلزم نصاً معيناً من حيث الزمن ، ومن حيث العناصر الشعبية للفرجة على أن تكون غالبة على العناصر الفكرية التي تستلزم التأمل الذهني.
يقول زياني شريف عياد : " عندما أعمل على عرض مسرحي أحاول أن آخذ بعين الاعتبار المسرح الذي أقدم فيه عملي . ولكن أيضاً أراعي كل احتمالات التكيف مع أي حيز جديد يطرح على أن أقصده لاحقاً " .
دور الجمهور في تشكيل عناصر الفرجة:
يقول لوركا : " إن جمهوراً لا يساعد مسرحه ويشجعه لهو جمهور ميت ، وفي طريقه إلى الموت . وكذلك فإن مسرحاً لا يضم بين دفتيه حركة المجتمع ونبض التاريخ ، ومأساة شعبه ، ويصور بصدق أرضه وروحه ، بالضحكات والدموع ، لا يستحق اسم المسرح ، بل يكون مكاناً للهو أو لذلك النوع ، المروع من النشاط الذي يسمونه (قتل الوقت) " . كما يقول : " إن المسرح يجب أن يفرض نفسه على الجمهور" ، وأضيف إليه كيف يتم ذلك إن لم يكن ممتعاً ، وكيف يكون ممتعاً دون عناصر الفرجة المختلفة.
ويقول جان جيرودو : " إذا كانت المسرحية جيدة فإنها تصبح ملكاً للجمهور ، ولا يبقى ملكاً للمؤلف غير المسرحيات الرديئة وحدها " ، ويضيف : " إن وجودنا على الأرض يصبح مباراة محزنة أو جهداً أسيفاً ما لم يكن هناك متحدث باسم التراجيديا أو الدراما بكشف مدى ما في هذا الوجود من الجمال والخيال ويرسي لها الأسس والقواعد" .
ويقول برخت : " إن المسرح يبقى هو المسرح حتى عندما يصبح مسرحاً تعليمياً، وهو ما دام مسرحاً جيداً فلابد أن يسلي" ، ويضيف : " لكن مهمة المؤلف أن يمكّن المشاهدين من الرؤية " .
دور الممثل في تجسيد شكل الفرجة وعناصرها:
يرى جيرودو أن الممثل الأول الذي يؤدي الدور على خشبة المسرح هو الحلقة الأولى في سلسلة من التجسيدات تزداد بها الشخصية استقلالاً عن المؤلف وتنسل بعيداً عنه إلى الأبد. ويصدق ذلك أيضاً على المسرحية في مجموعها. فهي بعد العرض الأول تصبح ملكاً للممثلين ، ويغدو المؤلف الذي يحوم حول الكواليس شيئاً كالشبح ، يكرهه المشتغلون بالمسرح جميعاً سواء لزم الصمت أم أكثر من الكلام . وبعد العرض المائة .. وخاصة إذا كانت المسرحية جيدة فإنها تصبح ملكاً للجمهور ولا يتبقى ملكاً للمؤلف غير المسرحيات الردئية وحدها .
ويرى أيضاً أن دور "الراوي الذي لا يزيد في المسرحية عن أن يكون صوتاً يتردد ، بلا شخصية ولا مسؤولية هو في الوقت نفسه صوت المؤرخ. وهو صوت يعيش في العصر الذي نشأ فيه لحماً ودماً. إنه المؤلف المسرحي ذاته ".
كما يقول عماد عبد الرازق : إن خيال الظل قد اكتسب أهمية وعراقة كأبرز الأشكال المسرحية القديمة :"مسرح خيال الظل اعتمد على رسائل بسيطة في التأثير الفني في المشاهدين" . وعن الممثل يقول : "المهارة في تشكيل الصوت وتطويعه مطلوبة في ممثل خيال الظل".
أشكال الفرجة الشعبية والفرجة الفنية في مسرحية
" الظاهر بيبرس "
على الرغم من نفور كثير من المثقفين للفظة فرجة وتعمدهم إبدالها بلفظة عرض، فإنني أتمسك باللفظة الأولى "فرجة" لأن العرض يشتمل على الفرجة والفكر ، على قيم فنية وقيم فكرية واجتماعية وإنسانية ، والقيم الأولى ، تؤدي إلى عرض الثانية. وأود التنويه بأنني لا أحرص على الشكل وإيثاره على المضمون ولكنني أفرق فقط لبيان قيمة عنصر الشكل في خدمة المحتوى.
ويتبقى لي بعد الفصل في هذه القضية الفنية أن أعرض لعناصر الفرجة وأشكالها الشعبية تطبيقاً على مسرحية د.عبد العزيز حمدوه لاشتمالها على كل هذه الأشكال والعناصر. فإذا كانت أشكال الفرجة تستخدم العناصر الملائمة لكل شكل منها ، فالشكل يستدعي ما يحققه تماماً ، كما يستدعي التعبير الشكل الملائم ليؤثر تأثيراً شعورياً دافعاً للتأثير الأساسي ، المراد منه كسب التأييد الجماهيري لفكرة أو لقيمة ما. وهذه العناصر منها ما هو فني ومنها ما هو شعبي. والفرجة الشعبية متجددة العناصر ، بمعنى أن العناصر قابلة للتغيير الجزئي من عصر إلى عصر آخر ، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر ، بل من غرض إلى غرض آخر خلال شكل الفرجة الواحد. فالحلقة شكل من أشكال الفرجة ، وقد تستخدم للذكر كما تستخدم للحواة ، وتستخدم للسيرك ، وللموالد وللمبارزة وللتحطيب وللرقص على فرس. وهكذا. تستخدم للتمثيل في الفرق الجوالة.
ومما تقدم نرى أن الشكل المكاني الواحد قد يستخدم لتجسيد عدة أشكال حركية تعبيرية ، ونرى كيف أن شكلاً واحداً من أشكال الفرجة كوسيلة لغرض ، قد يكون عقيدياً ، وقد يكون ترفيهياً وقد يكون نفعياً (كالزفة) وتبعاً للغرض وللمكان يتم تخير الشكل المناسب للفرجة أو للعرض حيث تتواءم مع الشكل والموضوع أو الغرض الذي استدعاها.
والإمتاع في أشكال الفرجة الشعبية أكثر من الإقناع . ولا يترتب على ذلك أن الفرجة الشعبية ليست فنية ، أي خالية من التركيب الفني المستند إلى المران والخبرة والإبداع . ذلك لأن المدينة بعلاقاتها وثقافاتها المركبة قد أصبحت الآن مدمنة لأشكال الفرجة الشعبية. وكذلك فإن كليهما يراد له أن يكون فناً.
أما من الناحية الغائية فكلاهما يراد منه تحقيق تأثير وجداني ما على المتلقي بحيث يتحقق الإمتاع والإقناع معاً بالفكر المطروح وبالقيم . غير أن الفرجة الشعبية تكون أكثر من الفكر ومن القيم في العروض التي توظف الأشكال الشعبية للفرجة وعناصرها.
ويتسم عنصر الفرجة الشعبية بالمرونة والانسيابية كما أشرت ، وهو أمر يساعد على أن يظل محفوراً في ذاكرة الناس ، وأن يتعدل باستمرار لمواجهة الأنماط الجديدة في الحياة وفي التعبير. وهذه خاصية مهمة في عنصر الفرجة الشعبية ، حيث يبدأ العمل الفني من فرد ، ولكنه يصبح ملكاً لكل الجمهور في كل زمان ومكان ، ذلك لأن الناس يضفون عليه بما يسقطونه من المأثورات التي هي خلاصة تجربة وجدانية وعقيدية طويلة ومريرة ويسقطون عليه دوافعهم الجمعية وبعضاً من واقعهم مما يصقله.
استيحاء عناصر شعبية مصدرها الأول هو التاريخ في (الظاهر بيبرس):
وتتمثل عناصر الفرجة الشعبية كلها في نص الظاهر بيبرس حيث يستعين بالعديد من أشكال الفرجة الشعبية مثل: خيال الظل والأراجوز والراوي ، التشخيص. ويستفيد المؤلف من بعض الشخصيات التاريخية مثل (ابن دانيال) صاحب خيال الظل وبابات (طيف الخيال) و(اليتيم والمتيم) وكذلك يستعين بـ(الظاهر بيبرس) ، و(ابن الحلبي) و(قطز) ويستفيد بالأحداث التاريخية ليسقطها على الواقع المعاصر ويصوغ ذلك كله وفق أسلوب الحكاية الشعبية ، ويفيد بالأسطورة وبالسرد ، وبالاسترجاع الزمني والكناية والتضمين والإيهام والازدواج والتقاطع ، والتداخل والتوازي. ويستفيد بشخصيات الموروث الشعبي من أشباح أولاد البلد والشخصيات النمطية مثل القوادة والداية. ويستخدم اللفظ الشعبي والمصطلحات البلدية.
استخدام مؤثرات شعبية للفرجة:
وهي تتمثل في عناصر تشكيلية تراثية مثل: الدكة – الربابة – القهوة – الزمارة – الطبلة – العروسة – النرجيلة وحيوان (قرد – كلب- حمار – فرس) - سيف أو حربة - زير أو قلة – شال وحلق وحرام إلخ.. وهذا كله مستخدم تقريباً في تلك المسرحية.
ألفاظ شعبية متعددة الأغراض تعطي انطباعاً محدداً وترسم معالم ابن البلد:
وإذا كانت شخصية ابن البلد تتحدد ببعض الملامح والسمات الخاصة والمميزة مثل: خفة الدم والاستدراك يهدف الاعتذار غير المباشر ورد الاعتبار والتمسك بالقيم واللوذعية واللماحية والتلطيف فإن ذلك كله ماثل في (الظاهر بيبرس):
" شمس: امشي انجر انت وهو .. هاتوا القوادة (مستدركاً) قصدي الداية أم رشيد .. لخبطوني الله يلخبطكم "
فهذا نوع من الاعتذار المباشر على ما بدر منه من صراحة وخشونة.
والاستدراك .. دليل على لماحية الشخصية الشعبية ، وفيه رد اعتبار للمرأ وللآخرين وتقرير بآدميتهم حيث ينطق كنيتها أم رشيد ولا ينطق اسمها حسب عادة المجتمع الشرقي الإسلامي.
ويبدو أسلوب "الأمر" في (امشي انجر) نوعاً من خفة الدم الشعبية والتلطيف كصفة لابن البلد تظهر في محاولة فض الاشتباك بين (الأسطى عثمان وأم رشيد) طلباً لمنفعة "حتشخص .. حتشخص يا اسطى عثمان" . "خلاص يا معلم خلاص" ، ويستخدم النص عنصر التوبيخ مع جلب التعاطف معاً " (هامساً) إيه يا وليه اللي كنت بتعمليه ده؟ انت عايزه تكملي علي؟؟ مش كفاية خيالة آخر الزمنن .. دايرين على حل شعرهم بيشخصوا زي ما هم عايزين .. "
مواجهة مباشرة وبدون ندم عن اقتناع تام : (التقنع وراء الشخصية):
"أم رشيد : (وهي تحدث نفسها تقريباً) إيه حكاية الأسطى عثمان النهاردة ؟ وإيه اللي حمقه قوي كده (صمت) علشان قلت إنه واحد من المماليك .. طب وفيها إيه دي ؟ ما كل الناس عارفة .. وهو كمان عارف
هكذا كما رأينا من تلك النماذج كيف سكنت عناصر الفرجة الشعبية فنوننا المسرحية كتابة وعرضا ، حتى أننا لا نكاد نستثني من بينهم كاتبا واحدا أو مخرجا أو مصمما أو ملحنا .
احمدصلاح خطاب- عدد المساهمات : 127
تاريخ التسجيل : 02/12/2009
العمر : 39
الموقع : http://kenanaonline.com/ahmedsalahkhtab
مواضيع مماثلة
» المسرح الشعبي العربي حكاية واحتفال د.فاضل خليل
» تعريف العادات الشعبية
» نعريف المعارف الشعبية
» الآلات الشعبية ذاكرة شعوب
» بعض العادات الشعبية في عيد الميلاد المجيد
» تعريف العادات الشعبية
» نعريف المعارف الشعبية
» الآلات الشعبية ذاكرة شعوب
» بعض العادات الشعبية في عيد الميلاد المجيد
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى